وهم الحداثة.. باقي أحمد ملا

وهم الحداثة.. باقي أحمد ملا

وهم الحداثة.. باقي أحمد ملا

لم تعد المجتمعات الحديثة تعيش واقعها الطبيعي، بل غَرِقت في واقع مصطنع تصنعه الصور والرموز وتغذيه الإعلانات. هذا الواقع البديل أفقد الإنسان معناه الأصيل، وحوّله إلى "علامة تجارية" يعرض نفسه في كل تفاصيل الحياة، حتى صار وجوده مرهوناً بنظرة الآخرين إليه عبر منصات التواصل الاجتماعي.

اليوم نرى العالم كما لو كان مسرحاً ضخماً، وجوه مبتسمة، رحلات مترفة، جلسات في المطاعم، وصور مثالية توحي بأن السعادة في كل مكان. لكن خلف هذه المشاهد يختبئ سؤال يقلق الكثيرين: لماذا لا تبدو حياتي على هذا النحو؟ وهكذا يبدأ سباقٌ محموم نحو الوهم، حتى يصبح الزيف أكثر إغراءً من الحقيقة.

الإعلانات تكشف بوضوح هذا التحول. فهي لا تبيع سلعة لوظيفتها المباشرة، بل تعرضها كرمز للسعادة والنجاح. فسيارة جديدة تُقدَّم كطريق إلى الثقة والوجاهة، لا كمجرد وسيلة نقل. والعطر يُسوَّق كأداة تمنح الأناقة والجاذبية، لا كرائحة جميلة فقط. حتى أبسط الأشياء، مثل فرشاة الأسنان، تُقدَّم وكأنها سرّ السعادة الأسرية. إن الرأسمالية الحديثة لا تبيع منتجات بقدر ما تبيع صوراً ورمزيات وهوية وهمية نحلم بامتلاكها.

وسائل التواصل الاجتماعي عمّقت هذه المحاكاة. فالمؤثرون يصورون حياتهم كأنها مثالية، يستخدمون الفلاتر واللقطات البراقة، بينما يعيش كثير منهم واقعاً مختلفاً مليئاً بالفوضى. ينشرون "نصائح للنجاح" و"دروساً في السعادة"، في حين يفتقرون إليها في حياتهم الخاصة. إنها محاكاة زائفة، كما وصفها "جان بودريار"، تُغطي الحقيقة وتعيد إنتاج الوهم باستمرار.

لقد صار الإنسان يعيش لا من أجل ذاته، بل ليعرض صورته. يذهب إلى المقاهي والرحلات لا ليستمتع باللحظة، بل ليوثقها أمام المتابعين. يبتسم في الصور لا لأنه سعيد، بل ليبدو كذلك. حتى تفاصيله اليومية البسيطة تحولت إلى مشاهد متكررة، أشبه بعرض مسرحي لا ينتهي.
الخطر الحقيقي أن هذا الزيف أصبح يبتلع وعينا. لم نعد نميز بين الحقيقة وصورتها. صرنا أسرى للرغبات التي تولدها الماركات والإعلانات، ورهائن لصورة مثالية لا يمكن بلوغها. وكما قال شوبنهور: "الرغبة لا تشبع أبداً، بل تقود إلى ألم دائم." وهكذا نلهث وراء صور مصممة لن تكون يوماً واقعية.

في النهاية، نخشى أن لا نحيا حياة حقيقية، بل نحيا نسخاً مفلترة منها. واقع مليء بالصور والإيهامات، يشبه الحقيقة لكنه لا يمس جوهرها. إنه وهم الحداثة الذي جعلنا نصنع زيفنا بأيدينا، حتى أصبحنا أسرى محاكاة مستمرة تحجب عنا أصالتنا الإنسانية.